كتبت ( جولدا مائير ) رئيسة وزراء إسرائيل الأسبق عبارة شديدة الوضوح والمباشرة فى مذاكراتها ( إعترافات جولدا ) :
( .. إسرائيل كانت حريصة كل الحرص على ألا يكون هناك إستقلالاً قضائياً فى الدول المجاورة .. !! ) .. وكأن هذه الداهية المحنكة ثقيلة الروح والوزن كانت تعلم يقيناً أنه لاحرية ولا نهضة ولا كرامة ولا حضارة دون قضاء نزيه عادل مستقل .. جولدا التى شغلت هذا المنصب الحساس منذ عام 1967 حتى عام 1974 كانت تعى شفرة التفوق وكلمة السر ومصدر القوة والنفوذ لأى أمة تبتغى النهضة والتمدن ، إنه القضاء الذى قال فيه الفقه الإسلامى كلمته الحاسمة ، فهذا هو سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام يرسم لنا الطريق : ( الْقُضَاةُ ثَلاثَةٌ : قَاضِيَانِ فِى النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْـجَنَّةِ؛ رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْـحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ، فَذَاكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ لا يَعْلَمُ ، فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِالْـحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْـجَنَّةِ ) كما أوصى النبى : ( لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ )
طاردتنى تلك الأفكار وانا أؤدى رسالتى ( المحاماة ) دفاعاً عن الأطفال المتهمين والمحبوسين إحتياطياً على ذمة المحاكمة فى قضية أحداث بورسعيد التى سقطت فيها زهور أخرى يانعة من بستان الوطن .
فمنذ فجر التحقيقات والنيابة العامة أعلنت عن غضبها المستعر ورغبتها فى الإنتقام ، وراحت تحبس أطفال أقل من 15 عام بالمخالفة الصريحة لنص المادة 119 من قانون الطفل وتعديلاته ( 126 لسنة 2008 ) ، وأيدتها فى ذلك الإنتهاك النموذجى محكمة الطفل .
وإستمر حبس تسعة أطفال إحتياطياً وإنتقاماً لمدة ثمانية أشهر متصلة فى أماكن غير مخصصة لإحتجاز هؤلاء الأطفال بالمخالفة لنصوص القانون أيضاً ، إلى أن فوجئنا مؤخراً بأن محكمة الطفل الإستئنافية تأمر بإخلاء سبيل طفل بضمان مالى قدره ( عشرة الاف جنيهاً ) وتمنعه من السفر خارج البلاد لمجرد إننى قدمت للمحكمة فى جلسات المرافعة إخطاراً بنكياً بحساب وديعه الطفل فى إحدى البنوك بالدولار !!
وذلك رغم أن المادة 140 من قانون الطفل أعفت الطفل من أى رسوم أو غرامات تتعلق بدعاوى الطفولة المنظورة أمام تلك المحكمة ، لكون الطفل ليس له ذمة مالية وليس له مال خاص ، فضلاً عن أن الطفل دون سن ال 15 عام لايقضى بحبسه على وجه الإطلاق بل تتخذ حياله تدابير إصلاحية محددة وضعها المشرع فى نص المادة 101 لمصلحة الصغير وتعديل سلوكه ، ويكون الإيداع فى مؤسسة رعاية إجتماعية أو حبسه أو فصله عن أسرته ملاذاً أخيراً للقاضى للإبتعاد بالطفل عن مناخ وسلوك أسرته غير الصالحة !!
كل تلك النصوص تم خرقها وإنتهاكها وذبحها بسكين الإنتقام وليس لرغبة القصاص أو تحقيق العدالة .
أتذكر كيف طلب أحد هؤلاء الأطفال من والدته والشرطة تجذبه لمحبسه قطعة حلوى إشتهاها هذا المسكين فى زنزانته التى ضمت معه عتاة المجرمين والبلطجية .
أتذكر كيف راح الطفل يبكى أمام القاضى ويقول له : ( والله ياعمو ماعملت حاجة !! )
أتذكر كيف قتل أبنائنا وفقأت أعينهم فى محيط مجلس الوزراء ومحمد محمود وماسبيرو وألقيت جثثهم فى صناديق القمامة على شاشات الفضائيات ولم تحرك العدالة لها ساكن وكأن على رأسها الطير .
أتذكر كيف تمت إحالة أوراق قضايا قتلة الشهداء إلى المحاكمات فى شكل هزيل مهترئ مشوه لاينتظر سوى براءة الجناة وضياع الحقوق والدماء !
أتذكر بلاغات فساد الكبار وإنحرافاتهم التى قدمناها منذ سنوات ولازالت حبيسة أدراج النيابة العامة دون تصرف أو إهتمام يذكر !!
إن ماتفعله العدالة فى قضية بورسعيد إنتقاماً محموماً وليس قصاصاً محموداً يتحقق معه الحد الأدنى من معايير المحاكمة العادلة المنصفة التى إشترطها الدستور المفترى عليه ونصت عليها المواثيق والإتفاقات الدولية والإعلان العالمى لحقوق الإنسان .