لن أتشبب فى بورسعيد، أوقيانوسة مصر الفريدة، درة البحر المتوسط وعاصمة البلاد الثالثة. لن ألجأ إلى التنظير أو التحليل، ولن أعرض لمعوقات التنمية فى مدينة كانت هى الأسرع نمواً بين كل مدن الجمهورية. لن أخوض فى أمور التعليم والبطالة والإدارة والصناعة والزراعة والملاحة والسياحة.. لا.. لن أفعل أياً من هذه الأمور. فقط سأرصد عزيزى القارئ بعض وقائع ما يحدث فى بورسعيد الآن.. الآن بالضبط.. تاركاً لك مهمة الحكم عليه. ربما قلتَ عزيزى القارئ إن ما سوف تقرأه هو واقع الآن فى كل شبر مأهول بالبشر فى مصرنا المرهقة.. نعم هذا قول حق، لكنه فى بورسعيد أكثر كثافة وأعظم ضرراً، منه العادى المتشابه، منه غير العادى المخصوص بها وحدها.
لأبدأ بالعادى.. بصديقى الفنان التشكيلى الكبير "عباس مختار الطرابيلى" فقد مر على أصدقاء له ولى جالسين بمقهى (الفلاح) فى أكثر الأماكن حركة وحيوية، حياهم فدعوه للجلوس إليهم، وما هى إلا هنيهة من جلوسه حتى اخترقت فخذه رصاصة انطلقت من مسدس مزود بكاتم للصوت عيار 9 مللى. كيف ولماذا وممن ومن أين؟.. لا أحد يعرف.. إنها واحدة من صور العبث الذى تعيشه المدينة. "سمية الألفى" أديبة صديقة كانت واحدة من المئات الذى أدوا واجب العزاء فى وفاة صديقنا الشاعر الكبير "إبراهيم البانى" داخل جبانة بورسعيد، وما إن أدت واجبها وانصرفت، حتى اختطف راكب موتوسيكل حقيبة يدها بعدما جرها وسحلها على الأرض وأحدث بجسمها جروحا وكدمات ورضوضا. والدة مواطن يدعى "توفيق ثروت" طعنت بمطواة فى صدرها وسرقت نهاراً جهاراً وسط زحام سوق السمك القديم أمام مكتب بريد أبى الحسن.
ست مشاجرات حدثت فى اليومين الأخيرين استخدمت فيها الأسلحة النارية والبيضاء وقنابل المولوتوف وراح ضحيتها العشرات ومنها ما وقع خلف أقسام الشرطة أو على مقربة منها. أقفال عيادة "الجامع" التابعة للتأمين الصحى بالمنطقة الخامسة بحى المناخ كسرها مجهولون واقتحموها، وعند إبلاغ شرطة النجدة لم تتجاهل البلاغ فقط وإنما سخرت من المبلغين. التحرش بالتلميذات أمام مدارسهن ببورسعيد وبورفؤاد صار عادة للمراهقين من الذكور، وفى ميدان المنشية بقلب حى الافرنج هجمت مجموعة من راكبى الموتوسيكلات على بنتين، اختطفوا واحدة وفرت الثانية إلى عمارة قريبة، فهرول وراءها أحدهم. أغاثتها ساكنة وأدخلتها منزلها فهجم البلطجى على الباب بغية كسره، ولما خرج فنى معمل الأسنان المواجه للشقة التى احتمت بها الفتاة مستفسراً ناله من البلطجى عدة ضربات وأصيب برأسه ووجهه، وفى ذات السياق قدمت أختان بلاغاً ضد والديهما المزارع يتهمانه فيه بمعاشرتهما معاشرة الأزواج. هذا بعض من كثير حدث قبيل كتابة هذه المقالة بساعات، وكل ما ذكرته صار عادياً جداً فى بورسعيد ومألوفاً ألفة الهواء والماء شأنه شأن تلال القمامة، أنهار طفح المجارى، انتشار العشوائيات، فوضى المرور وحوادثه (للتو وقع حادث تصادم بين خمس سيارات من بينها سيارة ميكروباص عند تقاطع شارعى محمد على والنصر، وقبل يومين فقدت "هبة" ابنة صديقى "محمد مناع" حياتها بسبب تدهور الطريق المؤدى إلى الأكاديمية البحرية حيث تتلقى تعليمها) هذا كله يحدث الآن غير تشكيلات من الموتوسيكلات صارت تقطع شوراع المدينة، كل تشكيل يضم ما لا يقل عن ثلاثين موتوسيكلا بدون أرقام ويحمل كل موتوسيكل ثلاثة أفراد فى المتوسط،، ومع هذه الطواهر الدائمة تفاقمت ظاهرة إشغالات الطرق التى فاقت كل حد، واستمرت سرقات السيارات وإعادة بيعها إلى مالكيها. كل هذا يحدث ببورسعيد على الرغم من كل ما ينشر عن حملات الشرطة المكبرة وحملاتها الموسعة ومداهماتها لأوكار المجرمين ببحيرة المنزلة.
أما ما هو غير عادى فكثير متشعب، منه محاصرة مبنى ديوان عام المحافظة من قبل غير ذوى الحق ممن يسكنون منطقة عشوائيات زرزاة ويطالبون بمساكن حكومية على الرغم من سابقة حصولهم عليها وقيامهم ببيعها. لكن هذا حدث ومازال حصارهم قائماً للآن. بل إنهم اقتحموا مكاتب إدارة التسكين واستولوا على الملفات بغية طمس الحقيقة، وسدوا بخيامهم المدخل المؤدى إلى مكتب المحافظ ورفضوا دخوله مكتبه حال عودته من الحج. مبررهم أن كثيرين غيرهم ممن يماثلونهم تماماً حصلوا على شقق سكنية وهم لا يطلبون إلا المعاملة بالمثل(!)
مما هو غير عادى أن يحاصر الغاضبون من الجمهور العام موظفو الثقافة فى المقر المؤقت الذى يعملون به، ويمنعونهم من مزاولة أعمالهم، لا لشىء إلا لأنهم يعملون بالقرب من مكتب المحافظ؛ وحينما يستنجدون برئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة ويوفد رئيس إقليم القناة وسيناء لبحث الموقف فيحاصره الغاضبون هو أيضاً مع موظفيه؛ ومن غير العادى أن يتمرد طلاب المدارس كمدرسة بورسعيد الثانوية العسكرية احتجاجا على السياسة التعسفية لإدارة المدرسة وفصلها لبعض التلاميذ؛ ومنه أيضا الهجوم غير المسبوق من قبل المضاربين على العقارات ذات الطرز المعمارية الفريدة لهدمها وجنى الأرباح الخيالية من جراء بناء الأبراج الاسمنتية مكانها (!)
ومنه خروج حاويات البضائع المستوردة، بقوة الفساد والبلطجة والسلاح، من الميناء والدائرة الجمركية ومن بورسعيد كلها بلا حسيب أو رقيب، فيصاب سوق المدينة بالكساد لتتحرك الشريحة المتوسطة من التجار وتغلق أبواب الميناء إغلاقاً فعلياً، وتعلن الإضراب العام وتنفذه تنفيذا عملياً، وتطالب برحيل المحافظ ومدير الأمن وحكمدار المحافظة وحل الغرفة التجارية. اليوم فقط اندلعت فى شوارع بورسعيد المظاهرات قوامها فئات ثلاث هى: الشريحة المتوسطة من التجار، شباب ألتراس جرين إيجلز، وعمال مصنع الضفائر الكهربائية المملوك لمستثمرين يابانيين وبريطانيين. التحموا معاً وارتفعت مطالبهم باستمرار المنطقة الحرة، ومطالبة رئيس الجمهورية بالقدوم إلى بورسعيد، والإفراج عن المعتلقين بلا ذنب أو جريرة من مشجعى النادى المصرى، وبعودة العمال المفصولين إلى مصنع الضفائر واستناف تشغيل المصنع، الغريب أنه بعد أن "خربت مالطة" قام وزير الداخلية بإقالة مدير الأمن والحكمدار وتعيين اثنين بدلاً منهما، ولاتزال المدينة تنتظر إقالة محافظها الذى لم يعد إلى ممارسة عمله بها منذ ذهابة إلى الحج وقيل إنه محتجز الآن فى مستشفى عسكرى قاهرى لتلقى علاجا من نزلة شعبية حادة فسرتها دوائر بالمدينة باعتبارها تكئة تكفل له الخروج الآمن، وحالياً تبذل جماعة الأخوان المسلمين وحزبها مساعيهما ليكون المحافظ الجديد أخوانياً، فى حين اجتمعت قوى أخرى ورشحت شخصية أخرى منخرطة فى سلك الإدارة المحلية منذ سنوات.