مع أننى محب للفنون، عاشق للحرية، ومؤمن تمام الإيمان بأن الأعمال بالنيات، وأن لكل امرئ ما نوى، إلا أن التقليعة البورسعيدية، المسماة بالـ"بالون شو"، فاقت وشاعتْ وعمَّتْ بما يجاوز كل حد؛ وصارت قرينة لمعظم الأنشطة الاجتماعية والسياسية والثقافية فى محافظة بورسعيد لدرجة أن أماكن الزفاف والأفراح العائلية، افتتاحات المحلات التجارية، دعايات الأوكازيونات الصيفية والشتوية، تدشينات المراكز الثقافية، انطلاقات المحافل السياسية، إعلانات المؤتمرات العلمية، والمهرجانات الفنية والأدبية، باتتْ لا تكتمل إلا بها، وصارت تـُصَفّ فيها هذه البالونات صفوفـًا صفوفا، لمسافات شاسعة.. حتى الشكايات وعبارات وشعارات الانتقاد والتنديد بالمسئولين التنفيذيين والسياسيين وجَدَتْ، وهذا ابتكار بورسعيدى محض، ضالتها فى هذه البالونات.
لم تتجاوز هذه التقليعة كل حد فقط، وإنما اكتسبت كذلك ملامح جديدة لم تكن لها عند نشأتها الأولى بالمحافظة.
بالنسبة لى، فقد كنتُ موزع النفس مبلبل الخاطر حيال هذه التقليعة، فهى من ناحية نبتة بيئة وثقافة غير بيئة وثقافة المصريين، لكنها من ناحية أخرى فتحت أبوابًا للعمل والرزق وأنشأتْ بيوتًا وكونتْ أسرًا. بعد لأى نجحتُ فى طمأنة نفسى وتطييب خاطرى بدعاوى الانفتاح الثقافى، وأنه لا حدود ـ نفسية حتى ـ تحول بين الأشياء البهيجة المفرحة والتنقل والاستيطان فى أية بقعة من بقاع العالم؛ غير أننى عدتُ فاستقبحتُ هذه الظاهرة فى تحولها الأخير الذى سأحدثكم عنه، وما عدتُ أرضى بملامحها الجديدة التى ظهرت بها أثناء هذا التحول، ولا أحسبن كل ذى فكر رشيد إلا واقفـًا فى صفى حيالها، لكنها بالرغم من هذا الاستقباح، منى ومن غيرى، أوْغلتْ فى استشرائها حتى صارت قاسمًا مشتركـًا لجوانب حياتية كثيرة..
لماذا؟
هل هو الجهل؟.. ربما.. المبالغة فى إظهار الفرح؟.. جائز.. الإهمال وعدم التفرغ؟.. محتمل.. الدافع الاقتصادى؟.. وارد بالتأكيد.. إن بعض هذه المبررات، أو كلها، سببٌ فى زحف هذه التقليعة إلى المناسبات الأهم فى حياة المواطن البورسعيدى، وهل هناك من المناسبات الحياتية فى بلد عربى مسلم أهم من المناسبات الدينية؟
نعم المناسبات الدينية، فإليها زحفتْ هذه التقليعة، وعليها رسختْ.
بدأ الزحف بالشوارع المؤدية إلى المساجد التى تعقد فيها، أو فى دور المناسبات الملحقة بها، مراسم عقد القران، لكن الأمر ما لبث أن تخطى مراسم عقد القران، إلى مراسم قدوم شهر رمضان، ومن الشهر الكريم إلى موسم العودة من الحج، فصار ذوو الحجيج يستقبلون بها حجيجهم عند أوبتهم من الأراضى الحجازية؛ ومازالت هذه "البالونات" تكسب الموقع تلو الموقع حتى تحكمتْ فى الساحات التى تؤدى فيها صلاة العيدين: الفطر والأضحى(!)
نعم صلاة العيدين: الفطر والأضحى.
فما عادت، تـُؤدى هاتان الصلاتان إلا وهذه الـ"بالونات شو" حاضرة على جوانب ساحات الصلاة الرئيسية والرسمية بالمحافظة.
ولأن هذه الـ"بالونات شو" ـ باستثناء تلك التى تأخذ أشكال القلوب والبوابات وأقواس النصر ـ مصممة على هيئات حية أغلبيتها الكاسحة لشخصيات بشرية، ذكورية وأنثوية، ذوات ملامح هى ملامح مهرجى بلاد الصقيع الأوربى؛ ولأنها بهيئاتها البشرية صممتْ لتكون دمى وعرائس منفوخة لها وجوه وأذرع تتحرك مع كل رفة نسيم؛ ومع أننى لا أميل إلى اعتناق فتاوى المتشددين من الفقهاء الذين يحرِّمون، حتى على الأطفال، اللعب بالدمى والعرائس المجسَّمة لذوات الأرواح من بشر وحيوان، اللهم إلا إذا بُلـَّتْ بالماء وغُمِرَتْ وجوهها به حتى تتغير خلقتها ولا يبقى فيها وجهًا كاملاً، أى حتى يصير كالظل ليس به عينان ولا أنف ولا فم (أحد فتاويهم!)، وبالرغم من أننى أضرب عن مثل هذه الفتاوى كشحًا، هى والفتاوى القاضية بالتحريم والإجازة، والإجازة مع الكراهة، وعدم الاقتراب من هذه الدمى البالونية من باب التحوط.. بالرغم من كل هذا، فقد اعتدتُ أن أصلى صلاة العيدين فى ساحة جامع السمحاء على الحدود بين منطقتى 6 أكتوبر والعاشر من رمضان السكنيتين فى قلب بورسعيد، لكونها ساحة خالية من هذه الدمى البالونية التى لا أستملحها، اتقاء للشبهات الدينية وانتصارًا لروحانياتنا الخاصة بنا، هذه الروحانيات التى بات يُخشى عليها من اتجاهات التسليع الرأسمالى ذى الصبغة التجارية.. ومع أننى لا أرى بأسًا فى استعانتنا بأى منجز حضارى ـ شرقى أم غربى ـ مادامت منجزاتنا قد تعطلت أسبابها، فإن من أسباب نفورى من هذه الدمى كونها منتمية إلى حضارة مغايرة لحضارتنا التى تدهور بها الحال حتى صارت حضارة تابعة لا تخجل، من فرط تبعيتها، عند ممارستها لشعائرها الدينية، من الاستعانة بمنجزات حضارات الغير، والمبرر البشع بكل أسف جاهز "لقد سخر الله لنا أقوام هذه الحضارات الكافرة ليكدوا ويكدحوا وينجزوا ما نتمتع به نحن"(!).
أديتُ صلاة عيد الأضحى لهذا العام (1434هـ.) بساحة جامع التوحيد ببورسعيد معلنًا مع الآلاف المؤلفة التى صليتُ معها عن فرحتى بتخليص هذا الجامع من براثن جماعات التكفير وبث الفرقة، غير أننى فوجئتُ بعشرات من الـ"بالون شو" تحف بنا فى اصطفاف وانتظام وتلاصق، من ذات اليمين وذات الشمال، ولمَّا ملنا إلى اليمين قليلاً لنتخذ وضعنا باتجاه القبلة، واجهتنا الدمى البالونية بعيونها الدقيقة والمتسعة، وبأفواهها المضمومة والمفغورة مواجهة التحدى وإثبات الوجود، خصوصًا لمالكها الذى كتب اسمه عليها دعاية لتجارته ولحى الزهور الذى يتباهى بإجراء الصلاة فى الجامع الواقع عند حدوده(!).
استأتُ واستهجنتُ هذا الموقف، وعجبتُ للموصوفين بالتشدد والوسطية، والانغلاق والاستنارة، من رجال الدين الذين استمرأوا ممارسة شعائر صلاة العيدين ـ منذ سنوات وسنوات ـ فى أوضاع كهذا الوضع(!)
بعد انتهاء الصلاة والخطبة حادثتُ مجاورى بما يضايقنى فعقـَّبَ يسؤال المستفيق: "صحيح.. إيه الفرق بينها فى وضعها ده، وبين اللات والعزى؟!".
وتفجَّرعلى الفور سؤالان فى ذهنى، أولهما عن الضرورة الدافعة إلى الزج بهذه الدمى البالونية فى المشاهد الشعائرية الدينية؛ وثانيهما عما أضافته هذه الدمى إلى الأجواء الروحانية لحشود المصلين؟..
تفجرا فى ذهنى.. وأنا متيقن تمام التيقن من أنه ما من مُصّلِّ، رجلاً كان أم امرأة، صبيًا أم صبية، شيخًا أم عجوزًا، وضع هذه البالونات فى اعتباره وهو يُصلـِّى؛ وأنه ما من واحد فى هذه الألوف المؤلفة نظر إلى هذه الدمى البالونية نظرة وثنية. محال أن يكون هذا قد خامر أحدًا من المصلين، لكن السؤالين ظلا على تفجرهما: ما الضرورة؟!.. وما الإضافة؟!..
وعامدًا متعمدًا أضفتُ إليهما سؤالاً ثالثـًا وأخيرًا: أين هو دور مديرية الأوقاف ومشيخة الأزهر بالمحافظة؟!.